الصفحات

الخميس، 28 مارس 2013

فى انتظار ضيف


عمر كل شيء فى هذا البيت من عمر صاحبه ، تجاوز الثمانين ، لم يكن عم مسعد يحب اقتناء الأشياء الجديدة، كان يحتفظ بأشياء منذ طفولته، ومنذ تاريخ زواجه، وتوقف عن شراء الأشياء الجديدة بعد وفاة زوجته منذ ما يزيد عن عشر سنوات، بل أصبح يكره أن يدخل إلي منزله شيء لم تراه زوجته ولم تساعده فى اختياره ، للدرجة التى جعلته يطرد حفيدته الوحيدة حين أتت إلي زيارته وبصبحبتها مشغل صوت جديد حتى يستطيع جدها سماع سيد درويش وعبد الوهاب عليه، بعد أن تهالك الجرامافون الذي يملكه، ولم يستطيع أحد من أصدقائه القدامى ن يصلحه له مما أصابه بحالة نفسية سيئة.

كان عم مسعد يعمل سائقاً فى هيئة السكة الحديد ، تقاعد فى الخمسينات من عمره، بعد أصيب فى حادث أثر على عينيه، لم فلم يعد يرى جيداً، لكنه لم يفقد بصره.


قضى فترة تقاعد مريحة للغاية مع زوجته ، قبل أن يمرض ابنه الوحيد ويقضى عليه مرضه ، لتستسلم زوجته بعدها بأيام للموت حزناً على ابنها.

ومنذ ذلك الحين عاش عم مسعد فى بيته القديم المحمل بالذكريات، وبائت كل محاولات حفيدته أن تصحبه ليعيش معها بالفشل، كان يرفض ذلك بشدة مبرراً رفضه بأنه ينتظر ضيفاً ما لن يأتى له إلا فى هذا المنزل.

جدران المنزل كانت تتزين بذكريات هذه الأسرة ، وكان يضفى عليها سحراً تلك الإضاءة الخافته الصادرة عن النجف القديم المتهالك الذي اشتراه مع زوجته فى بداية زواجهما، ورفض حتى محاولات زوجته فى آخر حياتها لتغيره والحصول على وسائل إضاءة أقوى لتساعده على الرؤية بشكل أوضح.

فقد كان عم مسعد يحب أشيائه بشده، ودائماً ما كان يقول أن روح الإنسان تتعلق بأغراضه التى عاشت معه عمره، وأنه إذا أصاب هذه الأشياء عطل أو خلل ما ، لا يجب على الإنسان أن يستبدلها أو يغيرها، لأن روحه أيضاً تصاب بهذا الاضطراب الذي يصيب أغرضه، فإذا كان الإنسان لا يمكنه تغيير روحه حين تضطرب، فلا حاجة لتغيير أشيائه.


عاش عم مسعد أيام حياته فى هذا المنزل بين ذكرياته، وعلى الرغم من كثرة أصدقائه إلا أنه لم يكن يحب الخروج معهم كثيراً، 

وأيضاً لم يكن يحبهم أن يأتوا إليه في منزله، فقد كان لا يريد تحميل المنزل المزيد من الذكريات.أحب وحدته، وأحب ذكرياته داخل هذا المنزل مع زوجته وابنه الراحلين، حتى حفيدته كان يتملل من زيارتها أحياناً، فقد كان يرى فيها المستقبل، المستقبل الذي لم يكن يراه بوضوح منذ أن أصيب بضعف في نظره، فهو لم يكن يحب ذلك المستقبل ولم يكن ينتمى إليه، كما أنه لم يكن يحبها أن تبقى معه كثيراً، وكان دائماً يقول لها أنه ينتظر ضيفاً ما لن يأتي إليه إلا وهو وحيد.

كانت لديه مذكرات قديمة يكتبه فيها أحداث يومه، وعلى الرغم من تجاوزه الثمانين، إلا أن ذاكرته كانت قويه، فهى الشيء الوحيد الذي لم يضعف فيه على ما يبدو. كان يخصص كل يوم من أيام وحدته لتذكر أحداث اليوم المشابه من عمره الماضي مع زوجته وابنه.


لم يتذكر اليوم الذي تعرف فيه على زوجته بالتحديد ، ربما لأنه لم يكن يعى هذا اليوم، فقد كان طفلاً صغيراً حين وجد فى قلبه حب لجارته ، ومنذ ذلك الوقت لم يعرف عمر من الذي بدأ، عمره أم عمرها، أم أنهم الاثنين بدأوا عمراً مشتركاً.

تذكر يوم أن التحق بعمله فى هيئة السكة الحديد، وطرقات مصر التى مر بها جميعاً وأصبح يعرفها مثلما يعرف نفسه، وكان يشهد الطرقات على لحظات سعادته وحزنه، تذكر أيضاً يوم زواجه، ويوم أن انجب ابنه الوحيد، يوم نجاح ابنه ويوم زواج ابنه، ولحظات ميلاد حفيدته، أيام مرض ابنه ونظرات الخوف في عين حفيدته التى لم ير لها مثيل طوال عمره، تذكر أيضاً لحظات وداعه لابنه التى مر بها، حالة الحزن التى عاشتها زوجته بعد وفاة ابنهما، واستسلامها السريع للمرض، واخر ما تذكرلحظات وفاة زوجته، وبعدها لم يتذكر شيء، وكأن الحياة توقفت والعمر المشترك الذي بدأه سوياً قد انتهى حين تخلى عنه أحدهما للموت، ولم يتذكر شيء بعد ذلك.

كان يقضى وقته فى تذكر حياته الماضية، وسماع سيد درويش وأم كلثوم وعبد الوهاب، لم يكن يسمع لأى أحد غيرهم، ولم يكن أيضاً يتحدث غير عن تلك الذكريات، حتى أن حفيدته أو أحد من أصدقائه كلما حدثوه عن شيء غير ذكرياته وزوجته وابنه،يحدثهم عن ذلك الضيف المجهول الذي ينتظره، ولا أحد يعرفه غيره.

استيقظ عم مسعد فى صباح يوم الأول من فصل الخريف، اليوم الذي توفيت فيه زوجته منذ عشر سنوات، نظر إلي دفتر مذكراته، وجد جمله واحدة مكتوبة منذ عشر سنوات "اليوم فارقنى عمرى"، رسم بيده العجوزة خط متعرج، وكتب تاريخ اليوم الجديد وتحته جمله "اليوم يأتينى ضيفى الذي انتظرته طويلاً"، وأغلق دفتر مذكراته.

نظر من شرفه منزله، كانت الشمس مازالت تشرق، سحب كرسيه الهزاز، إلي جوار الشرفه، ووضع أمامه صورة زواجه، وصورة أخرى له هو وزوجته وابنه.

لم يشعر بعدها بأي شيء سوى نور نقى يغمر وجه، وأيدي حفيدته تغلق له عينيه.

-------

ســـيـــن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق