كان عمري حينها لا يتجاوز العشر سنوات.. ولازالت أتذكر كل ركن في منزلها متعدد الأبواب.. ذو السقف شديد الارتفاع .. الصور القديمة المتراصة على الجدران.. والأثاث الضخم العتيق...
ولازالت أتذكر تلك العجوز وهي نائمة على سريرها وحولها كومة من الأدوية..وكأن المنزل لوحة فنية رائعة الجمال وهي بطلتها.. كل ما فيها متناسق عدا تلك الأدوية التي بدت وكأنها الشيء الوحيد الغريب عن المنزل.
وكأني أسمع تلك العجوز الآن وهي تناديني بصوتها المميز.. يدها التي كانت تقبض على يدي دائماً بقوة تجعلها ترتعش أحياناً... وكأنها كانت تقوي على المرض الذي أصابها بمحاولة امتصاص قوة وطبيعة من فطرتي الصغيرة التي لم تمرض بعد.
عيناها وهي تنظر لي كانت دائماً ما تؤكد لي هذا المعني.. وحين كانت تجذبني لتقبل رأسي بقوة .. وكأنها تستمد شيئاً ما مني وليس مجرد قبلة تطبعها على جبيني... كانت تلك القبلة تزعجني حينها ولكن بعد رحيلها عرفت كم كانت تلك القبلة الحانية العنيفة تجعلني بخير..
كانت عيناي تقع عليها ثم تتطلع إلي ذلك السقف المرتفع وكأن السقف أقصي طموح يساعدني على شفائها وعلى تحقيق أمنياتي الأخريات.
ويوماً ما دخلت إلي منزلها شعرت وكأن كل شيئاً في المنزل قد فارقته الروح التي تحييه ... لم تسمح لي أمي حينها برؤيتها في غرفتها.. وأخبرتني أنهم نقلوها إلي غرفة جديدة تحت الأرض وأنني لن أستطيع رؤيتها بعد اليوم.. ومنذ ذلك الحين لم تعد عيناي تطلع إلي سقف منزلها المرتفع راحت عيناي تتطلع إلي السماء.. وبدلاً من أن تقبل هي جبيني صارت شفتاي تقبل الأرض التي ابتلعتها.