الصفحات

الاثنين، 17 نوفمبر 2014

رسالة خائفة

إذا تجرأت يوما وأرسلت إليك رسالتي سأخبر عن عدد المرات التي كتبتها ومحوتها قبل أن تصل يدي إلي زر "إرسال".

اتسائل كيف وصلت إلي هذه القناعة التامة بعدم جدوي الحديث معك؟ كيف بعد أن كنت اتلهف لمحادثتك، وانتقي أفضل الكلمات ﻷتحاور معك، اتبادل معك الحديث حول كل شيئ الحياة والسياسية والثقافة والفن والكتابة وعني!

ربما استطيع الآن أن احدثك عن كل شئ باستثناء الجزء الخاص بالحديث عني!

استطيع أن أذكر لك عدد المرات التي لم تسمعني فيها... عدد المرات التي كنت اتمني أن أملك حق مهاتفتك في أي وقت من الليل والنهار، عدد المرات التي وقفت على شفتي فيها كلمة "احتاجك الآن.. الآن وليس بعد قليل.. احتاجك الآن وليس غدا"، ولم انطقها مرة خوفا ومرة حرصا على وقتك الثمين الذي كنت تضن علي ببعض منه، حتي وأنا في أشد حاجتي إليك.

ربما لن احتاج لتذكيرك كم مرة تركت عملى، أو خرجت من منزلي في المساء بعد كذبة صغيرة على أهلى، لاستمع إلي مشكلة مع زميل لك في العمل، أو الضيق الذي سببه لك جارك الذي حجز مكان صف سيارتك بقطع الحديد.. أنت بالتأكيد تذكر.. كنت تعتذر بعد كل عبث تفعله بي.. تعتذر عن عدم تقديرك لظروفي لكني اعلم انه في داخلك اعتذار عن خذالان وخيبة أملى الكبيرة بك.

سأحتاج أن أخبرك في الرسالة أيضا أني لازالت آراك جميلا زغم كل وقاحتك معي، ولازالت لا أري غيرك فى العالم رغم إحساس الإهانة الذي اجتاحني حين علمت انك كنت تضعنى في وضع مفاضلة مع امرأة آخري، وربما آخريات، تختار من بينهن من ستفوز بلقب "حبيبتك"!

صدقني لم يعد ذلك اللقب يعنيني.. يكفيني اعترافك أن معي راحتك.. يكفيني يقيني أنك ستكون في تعب طالما توسدت رأسك كتف غيري.. دعها تعبث بك وتعبث بها.. أنا أعلم أن أصل سعادتك وراحتك معي تماما كما أعلم أن أصل عذابي وتعبي كان معك!
ربما سأخبرك فى الرسالة أيضا عن كم الالم الذي يحتلني بعدما رحلت، عن فراغ الوقت من دونك وتوحش الأشياء!

احتاج أن استرد شجاعتي لأقدر على إيلامك.. ارسل إليك رسالتي فيخرج محتواها مني ويهدأ قلبي بعدما يتخلص من ثقل الكلمات التي يحملها إليك.

يوما ما سأقدر على وجعك.. يوما ما.

الجمعة، 26 سبتمبر 2014

رحيل


فى الرحيل فرصة للتنفس...
في الرحيل فرصة ثانية للبدء من جديد..
إنعاش لهذا القلب المثقل بحضورهم..
في الرحيل حياة..
لا يحب أن يحزن من يملك خيار الرحيل.. كل ما عليه أن يبتسم ويدير ظهره ويخرج من باب معاناته...
لا يجب أن يبكي من يملك فرصة للرحيل..
خلق البكاء للضعفاء والمغلوبين على أمرهم..
أما الأقوياء فبإمكانهم نفض غبار الخيبة عنهم والركض بعيداً نجو مكان آمن تلتئم فيه جراحهم العميقة..
في الرحيل حياة جديدة لا ينالها إلا من يقدر على دفع ثمنها..
من يستطيع ترويض إحساسه بالفقد
ويعقد معاهدات سلام مع وحدته..



ارحلوا 

ارحلوا عن البشر الذين تحبوهم ولا تجدون سبيلاً للتفاهم معهم..
ارحلوا عن الأماكن التي تنتمون إليها ولا تشعرون أنها تنتمي إليكم بنفس القدر..

فشعور الاشتياق أفضل من شعور الكراهية.. وذكريات قليلة جميلة خيراً من ذاكرة تملؤها ندوب الذكريات السيئة.. والحنين أرحم من الشعور بأنك صرت عبئاً على مكان ما أو أنه صار عبئاً عليك..


قلبُ منهك بالفقد خيراً من قلب تحتله الكراهية..
روح لازالت تائهة خيراً من روح ضلت الطريق، وأخذها كبرياءها إلي حيث لا تريد..

ارحلو حين تشعرون أن الحياة أصبحت لا تطاق.. وأن وجودك لا يغير كثيراً..
ارحلوا حين يكون في الرحيل حياة.. وفي البقاء موت.

عيون على الطرقات

أحب الكتابة ولا أجيدها
وأشعر أنها تحبني لكن لا تفهمني
تراوغني مثل أشياء كثيرة أحبها ولا أجد سبيلاً للتفاهم بيننا
تهرب مني حين أريدها
وأصرخ فيها حين تلح على
فيمضي الليل وكلانا حزين ووحيد
كغيمة في السماء نتمني أن تمطر لتتلاشي!


تطاردني في الطرقات عيون أشخاص ماتوا
قتلوا بالأدق
لا أعرف أي منهم
ربما التقت أعيينا في إحدي المرات التي سادها الجنون
وقام الناس لقتل بعضهم البعض دون أسباب واضحة
ربما تلك الأعين لإحدي ساكني التوابيت الكثيرة التي مرت أمامي في المشرحة
هل حقاً يبقي أثرهم داخل تلك الصناديق
التوابيت مثل الفنادق يقضي فيها الإنسان ليلته الأخيرة
قبل أن ينتقل إلي سكن دائم يخصه وحده
لا جيران مزعجون
لا إيجار كل شهر
لا فواتير لأي شئ
فقط يبقي مع الوردات التي تزين باب منزله –قبره-
والدعوات التي تأتي له بعيدة من العالم الآخر
أروع ما في الموت أنه فعل لا نقوم به مرتين
ولا تحتاج لتبريرات كثيرة لأن تفعله
ولا تلاحقك خلاله مكالمات أشخاص كثر يقولون أنهم خائفون عليك
لكنك تعرف أن الخوف ما هو إلا محاولات لفرض السيطرة
أروع ما في الموت أنه يكسر ملل الحياة وينهيها..


لازالت أعينهم تظهر لي على جوانب الطرقات كلما التفت يميناً أو يساراً..
تنير لي الطريق أحياناً وتخيفني أحيان أكثر
ربما لو سمح لنا القدر لالتقينا يوماً وتبادلنا الحديث والقهوة
ربما مارست معهم طقوسي المؤلمة في مشاهدتهم من بعيد
ترقبهم من بعيد..
أو حبهم من بعيد!
ربما كنا أصدقاء
أو تطورت صداقتنا لما هو أعمق من الصداقة
أو تلاشي وجودهم وانتهي مع الأيام
كجسدٍ أصابه مرض الجزام
وظل يأكل فيه إلي أن انتهي وواجه مصيره الحتمي «الحرق»!


ربما من بين تلك العيون عيني فتاي الذي طالما انتظرته
ربما إحداهم فتي صديقتي الذي رحل فجأة وترك لها جسد خاوي بعد أخذ روحها معه
الرجال دائماً يرحلون دون سابق إنذار
إما لأنهم قرروا أن يموتوا
أو لأنهم قرروا أن يقتلوا أرواحنا بداخلنا


ألم أقل أن الكتابة تراوغني
بدأت بالكتابة عنها
ثم سحبتني إلي سيرة الموتي
والعيون التي تطاردني على الطريق
والعلاقات التي يأكلها الجزام
والآن تجبرني على الخوض في سيرة من رحلوا!
وفروا هاربين بعد أن خنقوا الروح فينا!




الأربعاء، 4 يونيو 2014

محاولة بائسة للكتابة


تنويه: هذه التدوينة بائسة خيالية غير حقيقة.. وأي تشابه بينها وبين الواقع أنا مش مسئولة عنه 




على مدار اليوم حاولت عدة محاولات بائسة للكتابة أو العمل، كلها ذهبت سَدي.. النتيجة لا شيء، لا عمل أَنجز ولا مشروع كتابة تم.

لماذا توقفت عن التدوين في تلك المفكرة التي اشتريتها خصيصاً لتدوين كل ما يأتي في بالي؟

لا أعرف، ربما أصابني تجاهها الفتور الذي سريعاً ما يلحق بحماس البدايات.. ربما فشلي الدائم والمتكرر في تخصيص وقت يوم للكتابة، أو حتى الكتابة بشكل مستمر فدائماً أعرفني بـ«أنا كائن فوضوي يكتب حين يحلو له».

ما أحوجني الآن إلي نسمة هواء.. لكن حتي تلك بعيدة فاليوم ضربت المدينة الكئيبة عاصفة ترابية أجبرتني على المكوث في المنزل طوال اليوم، حتي لا تستفز حساسيتي الأنفية من جديد، وتمارس طقسها المفضل في تعذيبي وكتم أنفاسي.

أبقي يوماً بلا هواء.. خيراً من أيام اتنفس فيها بصعوبة وألم شديدين.

فلنكتب إذن

سلمي بماذا تفكرين؟

سلمى بماذا تحلمين؟

سلمى ماذا تكتبين؟

** مع الاعتذار لإيليا أبو ماضي..

كثيراً ما أشعر بأني محظوظة باسمي... كَتبت له قصيدة، وغنت له فيروز وغني له أحمد منيب... وهذا ما وصلني عنه حتى الآن.

فلنكتب إذن.. عن مواقف صغيرة تعكر مزاجنا.. أو بالأدق مواقف صغيرة نحملها نتيجة إخفاقات كبيرة.

يبقي كل شيء متماسكاً مستنداً إلي قشة... ما إن تهتز يبدأ كل شيء في الانهيار.

فيروز الآن تغني «انسرقت مكاتيبي وعرفوا أنك حبيبي»!

تأتي في وقتها فيروز دائماً، لكني لم اكتب عنك حبيبي نصاً واحداً خاص بك رغم كل محاولاتي..

كتبت عنك كثيراً على جدار قلبي، كيف لهم أن يعرفوا عنك طالما لم يدخلوا إلي قلبي ولم يسرقوه؟!

كيف يعرفوا عنك طالما قلبي الآن متحجراً بين أضلعي.. لا يسمح لأحد بالاقتراب منه ول يقترب من أحد؟

ينبض لا حزناً ولا فرحاً.. لا يأساً ولا أملاً، غير مكترث بشيء حتي بك أنت «حبيبي» الذي لم تعود كذلك !

أرسل الآن سلامي لملامحك التي أحببتها يوماً، وعيناك اللامعتان التي أضاءت لي يوماً الطرقات، في حين تشدو فيروز «مش فارقة معاى»!

غريبة فيروز... يبقي المساء بائساً إلي أن تأتي فيبتهج... :)

السبت، 22 مارس 2014

اعتراف فيسبوكي






اعتراف..

أنا بحب أزور بروفايلات أصحابي على الفيس.. واما يوحشوني بحب أشوف صورهم واقلب فى الكلام اللى هما كاتبينه.. ولما بلاقي حد كاتب انه متضايق أو زعلان بحاول اتصل بيه اطمن عليه.. والناس اللي انا متعودة عليها بتكتب على طول بقلق لما بيعدي كزة يوم ومبلاقيهومش كتبوا حاجة.

مش عارفة أنا كدة فى أي درجة من الإدمان.. بس الموضوع بقى بالنسبة لى معقد جداا.. البعد عن المكان اللي فيه أهلك وأصحابك بيخلى مواقع التواصل الاجتماعي مسكن قوى لوجع دائم اسمه "الافتقاد"، ووسيلة تحفظ علاقتك بيها مع ناس انت فعلا بتحبهم وجمعتكم الحياة فى مواقف معينة وصعب تجمعكم تاني.
زملاء دراسة أو كورس أو مشروع ما أو أصحاب سافروا مثلا. 

حياتنا الزحمة السريعة لايقة عليها فكرة انك تحرك صباعك على شاشة الكترونية لمدة دقائق فى بداية يومك فتعرف آخر أخبار صحابك اللى ممكن يكونوا بقوا عايشين فى قارة تانية، وحتى الموجودين معاك فى نفس البلد، الحياة شادة كل واحد فى دوامة .. بقى صعب تشوفهم كل يوم أو كل أسبوع.. بقت المواعيد بتترتب بظروفها، والسؤال فى التليفون بقى كل فين وفين.. بتبقى عايزة تتواصل معاهم حتى لو تواصل افتراضي بس انك تطمن على وجودهم بخير ولو من كلمات كاتبينها من ورا كي بورد مش فكرة سيئة.

اه مينفعش يكون التواصل بس تواصل افتراضي من ورا كيبوردات وتليفونات... بس لحد ما يتحقق الحلم بجزيرة معزولة عن العالم واختار اخد معايا فيها الناس اللي بحبهم واخليهم هما كمان يختاروا عدد معين من الناس اللي بيحبوهم، ونتجمع كل ليلة فى الجزيرة دى نسهر ونسمع موسيقى ونتكلم ...مفيش مانع من زيارة بروفايلات الأصدقاء..وسرقة فنجان قهوة مع بعض منهم كلما استطعنا إلي ذلك سبيلا.

الاثنين، 10 فبراير 2014

11 فبراير 2011... يا رب منفتكرش اليوم دة.




هحاول بقدر الإمكان انسي ذكريات اليوم دة.

مش هفتكر عمر سليمان وهو بيقول «قرر الرئيس محمد حسني مبارك تخليه عن منصب رئيس الجمهورية»، ولا أول زغرودة سمعتها جاية من اخر الشارع، مش عايزة افتكر طعم كوباية الشربات اللى شربتها عند بتاع السوبر ماركت وهو بيقولى «خلاص بلدنا رجعت لينا مفيش ظلم تاني».

مش هفتكر أني عيطت على أغنية أنا بحبك يا بلادي لما شفت فيها صور الشهداء أول مرة متجمعة.

مش عايزة افتكر حرقة دم الفلول وكبستهم أن شوية عيال أسقطوا الحرباية اللى على رأس النظام... اعترف انى مشاركتش في الثورة من الاول.. مصدقتهاش... بس كنت مصدقة جداا ان اللى احنا عايشين فيه باطل باطل باطل، والأيام والأحداث اللي شاركت فيها بعد كدة هي خلتني أصدق أن مصر متنفستش حرية وعدل وكرامة غير فى الـ18 يوم دول.

مش هحاول افتكر تاني يوم على السوشيال ميديا تقريباً وكل أصحابي بيصبحوا على شمس الحرية اللى أخيراً أشرقت في مصر... صوت فيروز وهي بتغني مصر عادت شمسك الذهب.

مش هفتكر إحساسي أني عايشة في بلد غير البلد لما مشيت فى الشارع لقيت ناس من صحابي واقفين بيكنسوه وبيبضوا الأرصفة... يا رب يعدي اليوم ومفتكرش كل دة.

يا رب كمان مفتكرش الجرافيتي الكبير اللى اترسم جوة نفق كليواباتر (نفق خالد سعيد) على البحر واتكتب عليه "من انهردة دي بلدك انت مترميش زبالة.. متدفعش رشوة.. متعاكسش بنت.. متسكتش على الغلط... متكسرش إشارة.. فرصتك تبني بلدك بإيديك" وكأن الثورة كتبت دستورها على الحيطان.

مش هفتكر الشباب اللى وقفوا ينظموا المرور أيام ما كانت الشرطة مقموصة ولسة مفاقتش من علقة يوم 28 ولسة مش عايزين يرجعوا لشغلهم.

يا رب يعدي اليوم دة من غير ما افتكر أد ايه كنا سذج وفاكرين أننا إيد واحدة... ثوار إخوان سلفيين والعسكر اللى زي السكر، قبل ما الإخوان يبيعوا والسلفيين يقولوا لنا اللى مش عاجبه يروح أمريكا ولا كندا، والعسكر يحاكمونا محاكمات عسكرية، ويقتلونا في الشارع في ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء.

يوم واحد بس عشناه.. 3 سنين بعده أثبتوا لنا اد ايه كنا سذج ومخدوعين وعندنا حلم في البلد في دي.

حلم لقينا نفسنا بعد كدة عايشينه في كابوس الجري في الشوارع عشان اصحابنا المعتقلين، وصوت الرصاص وريحة الغاز وطوابير الجثث اللى قدام المشرحة، والمصابين في المستشفيات.

يا ريت الزمن وقف لحظة التنحي في 11 فبراير 2011، لحظة ما كان لسة فيه في الثورة أمل.




السبت، 4 يناير 2014

بنك الدم مفيهوش دم... مجرد حكاية من وطن عاجز




ساعتين فقط فصلا بين كونها في حاله خطيرة، وبين استقرار كل شيء فيها إلي الأبد.

صديقة لصديقتي لم تراها منذ شهور، ذهبت إلي لقائها بعدما علمت بنيتها السفر إلي الخارج، وعزمها عدم العودة إلي ذلك الوطن من جديد، لكن وطننا العزيز أراد أن يقتلها مرتين، مرة حين دفعها للرحيل، وآخري حين تركها تنزف حد الموت لأنه بالرغم من اتساعه لا يحوى نقطة دماء واحدة تنقذ حياتها!

لم أراها ولن أراها.. ظهرت في حياة صديقتي المقربة، التي كانت في زمن سابق صديقتها المقربة، لتذكرنا فقط بحقيقة أن الموت أقرب إلينا مما نتخيل... ولتؤكد حقيقة أننا نعيش في وطن قاتل مع سبق الإصرار والتبلد، من لم يمت فيه بالرصاص مات بغيره.

للعام الثاني على التوالي اقضي أول أيام السنة الجديدة تائهة بين أروقة المستشفيات ابحث عن دماء.

المكان بنك الدم الرئيسي في الدقي الزمان: الساعة العاشرة مساءاً الحدث: فتاتان في بداية العشرينات يلهثان نحو موظف متبلد، يطالبناه بأخذ تبرع دم منهن، وتبديله بفصيلة دم نادرة لفتاه تنزف منذ ما يقرب من الساعة إثر تعرضها لحادث مفاجئ. ببرود وعدم اكتراث، يخبرنا بأن الفصيلة المطلوبة غير موجودة «مفيش دم»، إذا أردتا التبرع، فعودا إلي بعد يومان من التاسعة صباحاً إلي الثانية ظهراً.

آخر يخبرنا باستحالة أن نجد الفصيلة المطلوبة لأن الفصائل السالبة نادرة، تأتي في التاسعة صباحاُ وتسحب في التاسعة صباحأ!

«روحوا مستشفي الشبراويصي أو الزراعيين يمكن تلاقوا هنا» ببرود أكثر يقولها، ونبرة صوته لا تخلو من اليأس ليس من إيجاد الفصيلة فقط، بل من إنقاذ الفتاة أصلاً!

ربما روتين حياتهم اليومي بين الأوجاع وصرخات المرضي أصابهم بالتبلد، انظر إليه بغيط وأحاول السيطرة على نفسي، كي لا يدفعني بروده لصفعه على وجهه، من أين يأتي العاملون في بنوك الدم وغرف الطوارئ بوجوههم البلاستيكية وأعصابهم المثلجة وهم يخبرونا بكل برود أن إنقاذ حياة شخص نحب مستحيلة، لأنهم عاجزون وفاشلون يعملون في منظومة صحة عاجزة وفاشلة تتبع دولة قاتلة وفاشلة!

«ليه نتبرع بالدم كل شوية طالما لما بنحتاجه مش بنلاقيه؟» تسأل صديقتي محاولة كسر صمت الليل الثقيل، في الوقت الذي نحاول الاتصال بصديقتنا الآخرى في المستشفي ليخبرني صوتها بانهيار تام أنها ماتت.

من الذي أدار العالم من حولي.. لماذا هبت الآن إلي عقلي ذكرياتي السابقة في مستشفيات وطننا المحروس، وبنوك دمه الخالية من الدماء دوماً، كم من المرضي يموتون يومياً، كم من أهاليهم وأصدقائهم قابلوا ذاك الموظف البارد المتبلد، كم أم وكم أخت وكم أخ وكم أب وكم صديق أصابهم الدوار وانهاروا تماماً في ذلك المكان، تفاصيل نسمعها يومياً، ونتأثر بها لكن لا نحاول أن نبذل محاولات جدية لتغييرها إلا إذا أصابت شخص نعرف أو عزيز علينا.

نفس اليوم من العام الماضي، أمام بنك الدم الرئيس لمستشفي معهد ناصر، أم ثكلي تتوسل إلي طبيبة شابة ملامحها بلاستيكية متبلدة، لا تفرق عن الموظف الذي قابلناه بالأمس كثيراً، كي تعطيها أكياس دم من فصيلة نادرة لتنقذ طفلها الذي ينزف منذ الصباح لأن سيارة صدمته.

"مفيش دم" بحسم وبرود بالغ تقولها الطبيبة، غير مكترثة بحياة الطفل التي ربما تنتهي بين طرفة عين وانتباهها، ثم أتبعتها بقسم أن الفصيلة التي تبحث لا تتواجد في ثلاجات البنك منذ عدة أيام، لتنصرف بعدها الأم وصوت بكاؤها يهز جدران المستشفي.

للحظ كانت الم تبحث عن نفس الفصيلة التي كنا نبحث عنها ليجري أبي جراحة دقيقة في القلب، أعادت الطبيبة كلمتها علينا "مفيش دم"، تبرعنا بعدد كبير من أكياس الدم في المستشفي في مقابل أن توفر لنا الدم من الفصيلة التي نحتاجها وقت الجراحة، ماذا تعني مفيش دم؟؟

مشاجرة مع الطبيبة، ثم مشاجرة مع نائب رئيس المستشفي تنتهي بتدخل بعض الأقارب "المهمين" لإنهاء المشكلة.

تليفون الطبيبة "الكاذبة" يرن، ليأمرها مديرها بأن توفر أكياس اللازمة للجراجة من الفصيلة المطلوبة، تنظر لنا بنظرة تمتزج بين القرف والهزيمة ثم توقع على إقرار توافر أكياس الدم داخل البنك.

أبادلها نظرتها بمزيد من القرف وأنا اقول لها "الأم اللى كانت هنا لو حصل لابنها حاجة دمه هيبقى فى رقبتك".

ما الذي أعاد كل التفاصيل إلي ذهني الآن؟ احتاج لشخص يحضنني، صدمات الموت قاتلة لو تلقيتها وحدك.. التفت حول، صديقتي تواصل ثرثرتها حول فشل وزارة الصحة في مصر، والليل يزداد سواداً وبرداً.

ذهب الذين نحبهم.. عودوا إلي المنزل.. لن يفيقوا لا داعي للبقاء إلي جوار أجسادهم التي أنهكها النزيف، لن يشعروا بأيديكم التي تتشبث بأيديهم المثلجة!

في الطريق إلي المنزل.. مشاهد عدة تمر أمام عيني.. فقراء أتوا من قراهم البعيدة، بفترشون الرصيف أمام مستشفي الشاطبي في الإسكندرية، في انتظار نقطة دماء.. يطول الانتظار.

يموت أولادهم.. ربما يموتون هم ذاتهم من البرد والذل ووجع العجز أمام صرخات من يحبون.

ينتظروا وينتظروا ولا تأتي الدماء.. دائماً لا تأتي الدماء، ففي الأوطان التي تزهق فيها أرواح البشر في الشوارع وعلى الطرقات لن يكلف مسئوليها أنفسهم عناء توفير دماء تنقذ أرواح بشر آخرين غير الذين يقتلونهم بدم بارد يومياً، أو يقتلون أمامهم دون أن يكلفوا أنفسهم عناء محاسبة القاتل.

ماذا تعني لهم تلك الفتاة، مجرد رقم يضاف في كشف ضحايا حوادث الطرق، ماذا يعني لهم من أصبحوا يموتون بشكل شبه يومي، مجرد أرقام في كشف ضحايا العنف السياسي، أو ربما أرقام بلطجية تفتخر الدولة بقتلهم لأنهم يعرقلون مسيرتها في طريق الديمقراطية المزعوم الذي تحول إلي بركة من دماء الشعب يزيدها من يقدر على اغتصاب كرسي الحكم ليسبح فيها بحرية أكثر، دون أن يتوقفوا للحظة عن سفك الدماء ليدركوا أن بنوك الدم التي تنقذ حياة البشر مفيهاش دم، وأن مرضي يموتون يومياً بسبب ذلك، وينهار على أعتابها أهاليهم وأصدقاؤهم.

ربما في تلك اللحظة يدركوا أن من الدماء التي يسفكوها هي التي تسقط أنظمتهم الفاشلة العاجزة، والدماء التي يعجزون عن توفيرها أيضاً.