ساعتين فقط فصلا بين كونها في حاله خطيرة، وبين استقرار كل شيء فيها إلي الأبد.
صديقة لصديقتي لم تراها منذ شهور، ذهبت إلي لقائها بعدما علمت بنيتها السفر إلي الخارج، وعزمها عدم العودة إلي ذلك الوطن من جديد، لكن وطننا العزيز أراد أن يقتلها مرتين، مرة حين دفعها للرحيل، وآخري حين تركها تنزف حد الموت لأنه بالرغم من اتساعه لا يحوى نقطة دماء واحدة تنقذ حياتها!
لم أراها ولن أراها.. ظهرت في حياة صديقتي المقربة، التي كانت في زمن سابق صديقتها المقربة، لتذكرنا فقط بحقيقة أن الموت أقرب إلينا مما نتخيل... ولتؤكد حقيقة أننا نعيش في وطن قاتل مع سبق الإصرار والتبلد، من لم يمت فيه بالرصاص مات بغيره.
للعام الثاني على التوالي اقضي أول أيام السنة الجديدة تائهة بين أروقة المستشفيات ابحث عن دماء.
المكان بنك الدم الرئيسي في الدقي الزمان: الساعة العاشرة مساءاً الحدث: فتاتان في بداية العشرينات يلهثان نحو موظف متبلد، يطالبناه بأخذ تبرع دم منهن، وتبديله بفصيلة دم نادرة لفتاه تنزف منذ ما يقرب من الساعة إثر تعرضها لحادث مفاجئ. ببرود وعدم اكتراث، يخبرنا بأن الفصيلة المطلوبة غير موجودة «مفيش دم»، إذا أردتا التبرع، فعودا إلي بعد يومان من التاسعة صباحاً إلي الثانية ظهراً.
آخر يخبرنا باستحالة أن نجد الفصيلة المطلوبة لأن الفصائل السالبة نادرة، تأتي في التاسعة صباحاُ وتسحب في التاسعة صباحأ!
«روحوا مستشفي الشبراويصي أو الزراعيين يمكن تلاقوا هنا» ببرود أكثر يقولها، ونبرة صوته لا تخلو من اليأس ليس من إيجاد الفصيلة فقط، بل من إنقاذ الفتاة أصلاً!
ربما روتين حياتهم اليومي بين الأوجاع وصرخات المرضي أصابهم بالتبلد، انظر إليه بغيط وأحاول السيطرة على نفسي، كي لا يدفعني بروده لصفعه على وجهه، من أين يأتي العاملون في بنوك الدم وغرف الطوارئ بوجوههم البلاستيكية وأعصابهم المثلجة وهم يخبرونا بكل برود أن إنقاذ حياة شخص نحب مستحيلة، لأنهم عاجزون وفاشلون يعملون في منظومة صحة عاجزة وفاشلة تتبع دولة قاتلة وفاشلة!
«ليه نتبرع بالدم كل شوية طالما لما بنحتاجه مش بنلاقيه؟» تسأل صديقتي محاولة كسر صمت الليل الثقيل، في الوقت الذي نحاول الاتصال بصديقتنا الآخرى في المستشفي ليخبرني صوتها بانهيار تام أنها ماتت.
من الذي أدار العالم من حولي.. لماذا هبت الآن إلي عقلي ذكرياتي السابقة في مستشفيات وطننا المحروس، وبنوك دمه الخالية من الدماء دوماً، كم من المرضي يموتون يومياً، كم من أهاليهم وأصدقائهم قابلوا ذاك الموظف البارد المتبلد، كم أم وكم أخت وكم أخ وكم أب وكم صديق أصابهم الدوار وانهاروا تماماً في ذلك المكان، تفاصيل نسمعها يومياً، ونتأثر بها لكن لا نحاول أن نبذل محاولات جدية لتغييرها إلا إذا أصابت شخص نعرف أو عزيز علينا.
نفس اليوم من العام الماضي، أمام بنك الدم الرئيس لمستشفي معهد ناصر، أم ثكلي تتوسل إلي طبيبة شابة ملامحها بلاستيكية متبلدة، لا تفرق عن الموظف الذي قابلناه بالأمس كثيراً، كي تعطيها أكياس دم من فصيلة نادرة لتنقذ طفلها الذي ينزف منذ الصباح لأن سيارة صدمته.
"مفيش دم" بحسم وبرود بالغ تقولها الطبيبة، غير مكترثة بحياة الطفل التي ربما تنتهي بين طرفة عين وانتباهها، ثم أتبعتها بقسم أن الفصيلة التي تبحث لا تتواجد في ثلاجات البنك منذ عدة أيام، لتنصرف بعدها الأم وصوت بكاؤها يهز جدران المستشفي.
للحظ كانت الم تبحث عن نفس الفصيلة التي كنا نبحث عنها ليجري أبي جراحة دقيقة في القلب، أعادت الطبيبة كلمتها علينا "مفيش دم"، تبرعنا بعدد كبير من أكياس الدم في المستشفي في مقابل أن توفر لنا الدم من الفصيلة التي نحتاجها وقت الجراحة، ماذا تعني مفيش دم؟؟
مشاجرة مع الطبيبة، ثم مشاجرة مع نائب رئيس المستشفي تنتهي بتدخل بعض الأقارب "المهمين" لإنهاء المشكلة.
تليفون الطبيبة "الكاذبة" يرن، ليأمرها مديرها بأن توفر أكياس اللازمة للجراجة من الفصيلة المطلوبة، تنظر لنا بنظرة تمتزج بين القرف والهزيمة ثم توقع على إقرار توافر أكياس الدم داخل البنك.
أبادلها نظرتها بمزيد من القرف وأنا اقول لها "الأم اللى كانت هنا لو حصل لابنها حاجة دمه هيبقى فى رقبتك".
ما الذي أعاد كل التفاصيل إلي ذهني الآن؟ احتاج لشخص يحضنني، صدمات الموت قاتلة لو تلقيتها وحدك.. التفت حول، صديقتي تواصل ثرثرتها حول فشل وزارة الصحة في مصر، والليل يزداد سواداً وبرداً.
ذهب الذين نحبهم.. عودوا إلي المنزل.. لن يفيقوا لا داعي للبقاء إلي جوار أجسادهم التي أنهكها النزيف، لن يشعروا بأيديكم التي تتشبث بأيديهم المثلجة!
في الطريق إلي المنزل.. مشاهد عدة تمر أمام عيني.. فقراء أتوا من قراهم البعيدة، بفترشون الرصيف أمام مستشفي الشاطبي في الإسكندرية، في انتظار نقطة دماء.. يطول الانتظار.
يموت أولادهم.. ربما يموتون هم ذاتهم من البرد والذل ووجع العجز أمام صرخات من يحبون.
ينتظروا وينتظروا ولا تأتي الدماء.. دائماً لا تأتي الدماء، ففي الأوطان التي تزهق فيها أرواح البشر في الشوارع وعلى الطرقات لن يكلف مسئوليها أنفسهم عناء توفير دماء تنقذ أرواح بشر آخرين غير الذين يقتلونهم بدم بارد يومياً، أو يقتلون أمامهم دون أن يكلفوا أنفسهم عناء محاسبة القاتل.
ماذا تعني لهم تلك الفتاة، مجرد رقم يضاف في كشف ضحايا حوادث الطرق، ماذا يعني لهم من أصبحوا يموتون بشكل شبه يومي، مجرد أرقام في كشف ضحايا العنف السياسي، أو ربما أرقام بلطجية تفتخر الدولة بقتلهم لأنهم يعرقلون مسيرتها في طريق الديمقراطية المزعوم الذي تحول إلي بركة من دماء الشعب يزيدها من يقدر على اغتصاب كرسي الحكم ليسبح فيها بحرية أكثر، دون أن يتوقفوا للحظة عن سفك الدماء ليدركوا أن بنوك الدم التي تنقذ حياة البشر مفيهاش دم، وأن مرضي يموتون يومياً بسبب ذلك، وينهار على أعتابها أهاليهم وأصدقاؤهم.
ربما في تلك اللحظة يدركوا أن من الدماء التي يسفكوها هي التي تسقط أنظمتهم الفاشلة العاجزة، والدماء التي يعجزون عن توفيرها أيضاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق