الحجاب ليس المؤشر الحقيقي على تدين المجتمعات
يؤمن كاتب هذه السطور بأن اللباس الشرعي للمرأة هو الذي يستر الجسم
عدا الوجه والكفين، وتتحقق فيه شروط ثلاثة: ألا يصف ولا يشف ولا يكون زينة في ذاته
يلفت إليها الأنظار، وأن هذه المواصفات ملزمة دينيا وينبغي على المرأة الاستجابة
له أيا كان مسمى هذا اللباس وهيئته؛ ومن ثم فليس من همّ هذه المقالة الاشتباك
قبولا أو رفضا مع "الحجاب" الذي صار عنوانا لهذا اللباس، كما لن تتطرق
إلي الجدل النظري حول فرضيته، بل هي تسعى بالأساس إلى الاقتراب من روحه وفلسفته
والتعرف على ما طرأ عليه من تحولات خرجت به عما شرع من أجله، ومن ثم تطرح -أخيرا-
مقاربة مفادها أن الحشمة قبل "الحجاب" ومقدمة إليه.
أزياء الأخوات
يلاحظ المتابع لتاريخ الدعوة الإسلامية الحديثة أنها لم تكن تجعل من
الدعوة إلى الحجاب قضية محورية؛ وأنها تكاد تكون غائبة أو متأخرة في أجندة الحركة
الإسلامية في العقود الأربعة الأولى لنشأتها منذ أسس الإمام حسن البنا جماعة
الإخوان المسلمين في مصر عام 1928.
ومن يراجع التاريخ الاجتماعي لحقبة الأربعينيات التي تمثل أوج حركة
الإخوان المسلمين أو يراجع أرشيف الصور الفوتوغرافية لهذه الفترة سيفاجأ بأن ملابس
"الأخوات المسلمات" والناشطات في العمل مع الإخوان لم يكن يجاوز في أفضل
الأحوال "الإيشارب" الذي يغطي الرأس و"الجونلة" الطويلة. ولم
تكن ملابس بنات ونساء الإخوان المسلمين -فضلا عن علماء الأزهر ودعاته- تختلف كثيرا
عن ملابس المجتمع المصري المحافظ، بل كانت هناك بعض الأسر التقليدية في صعيد مصر
وبعض المدن أكثر تشددا في أزياء النساء حتى كانت المرأة فيها ترتدي زيا تقليديا
يسترها بالكامل عند خروجها من المنزل، وكان خروج المرأة وقتها نادرا.
لم تكن الدعوة الإسلامية تتكلم وقتها عن شكل أو نمط محدد للباس المرأة إلا ما كانت
ترفضه من ملابس نساء النخبة والطبقات المترفة المستغربة التي كانت تقلد المستعمر
وتتماهى معه؛ فكانت مكشوفة وفاضحة تخالف الشرع لما فيها من إظهار لما حرمه الله من
فتنة المرأة ولما فيه من خروج على قيم الستر والاحتشام المستقرة عند المجتمع. ودون
ذلك لم يكن هناك استقطاب حول الزي ولباس المرأة.. فغالبية المجتمع كانت نساؤه
محتشمات يقترب لباسهن من مواصفات الحجاب الشرعي إذا ما أردنا توصيف الحشمة والستر
في قائمة مواصفات مفصلة (وإن كان يصح في رأيي النظر إلى لباس المجتمع التقليدي
باعتباره عين اللباس الشرعي!).
الابتذال الممنهج
يؤرخ بنهاية الستينيات وعقد السبعينيات من القرن الماضي (العشرين) كبداية لانتشار
ما صار يعرف بـ"الحجاب" وارتفاع الدعوة إليه على مدى واسع في بلد كمصر.
في هذه الفترة كانت البلاد تعيش موجة واسعة للعري والابتذال، الممنهج أحيانا عبر
التيارات اليسارية العلمانية، وهو ما ظهر جليا في الأعمال الفنية التي كانت تمثل
خرقا وتعديا على ثقافة الستر والاحتشام التي تربى عليها المجتمع، وفي الفترة نفسها
بدأت بواكير الصحوة الإسلامية التي تغذت من رافدين أساسيين: الرافد القطبي ذي
الروح الانعزالية؛ المفارق للمجتمع والداعي لإعادة أسلمته من جديد (بعكس مشروع حسن
البنا الداعي لاستكمال أسلمة المجتمع) والرافد الوهابي الحجازي الذي يقوم على
سلفية شكلية تتعامل بتشدد في مسائل اللباس وتستحضر نموذجا محددا لما تعتبره لباسا
شرعيا.. في هذه الفترة بدأ يظهر ما عرف بـ "الحجاب"، وارتفعت الدعوة
إليه لباسا شرعيا بل واللباس الشرعي الوحيد للمرأة المسلمة.
لقد جرى تحول بالغ الأهمية مع الصحوة الإسلامية في عقد السبعينيات انتقلت معه
الحركة الإسلامية في قضية لباس المرأة من خطاب يرفض العري والابتذال الذي يخرج عن
قيم الستر والاحتشام التي عرفها المجتمع "المسلم" إلى خطاب آخر مختلف
يسعى إلى تحديد الحجاب كلباس "شرعي" وحيد للمرأة يفترض أن تتجسد فيه كل
القيم العليا التي يدعو الإسلام المرأة إلى الالتزام بها، وهو تحول جاء ضمن سعي
"أيدلوجي" أوسع لبناء مجتمع بديل على أساس من الإسلام.
لقد نشطت الحركة الإسلامية بأطيافها المختلفة في الدعوة إلى الحجاب في صورة معينة
ومحددة، خلافا لما كان عليه النظر الفقهي والشرعي المستقر في أن أي لباس للمرأة
مباح (أي: شرعي) طالما كان ساترا للجسد فلا يصفه أو يحدده، ولا يشف عما تحته، ولا
يكون زينة في ذاته؛ أي لا يكون لافتا يمثل خروجا على الزي السائد والمقبول من
المجتمع المسلم.
الحجاب "الاسكندراني"
حاولت أن أتتبع تاريخيا الزمان الذي ظهر فيه الحجاب بصورته المتداولة بين
الإسلاميين فرجحت أغلب الروايات أنه بدأ في منتصف السبعينيات بجامعة الإسكندرية
التي كانت السلفية هي المهيمنة على الجماعة الإسلامية فيها، وربما كان هذا سبب
شيوع صفة الحجاب "الإسكندراني" على هذا النوع من الحجاب الذي تم تعميمه
فيما بعد -عبر الجماعة الإسلامية- على بقية الجامعات المصرية ومنها خرج إلى
المجتمع المصري واستقر عنوانا وحيدا لللباس الشرعي.
لم تعد المتبرجات السافرات الخارجات على الحشمة المتبرجات هن وحدهن المستهدفات
بالخطاب الإسلامي الجديد في قضية اللباس؛ بل صارت كل فتيات ونساء المجتمع -ومنها
المحتشمة التقليدية أو المحافظة- مستهدفة أيضا بهذا الخطاب الحاسم والقاطع في أنه
لا لباس "شرعي" يجوز لهن إلا الحجاب بالمواصفات التي صاغتها الحركة
الإسلامية من تصورها لما كان عليه لباس المؤمنات في زمان السلف الصالح: الحجاب
الواسع الطويل المنمط ذو اللون الواحد الذي كان غريبا عن لباس المجتمع.
لم يعد المطلوب من الفتاة أو المرأة أن تلتزم القصد في الملبس أو الاحتشام، وهو ما
يمكن أن تجده في لباس أمها وجدتها المنتشر في الريف أو الصعيد أو العائلات
التقليدية والمحافظة، بل صار عليها الدخول في لباس جديد لم يتأثر في شكله وطبيعته
بأي من مؤثرات التاريخ والجغرافيا ولا تظهر فيه أي تعددية ثقافية أو اجتماعية..
إنه لباس وليد رؤية سلفية لا تاريخية مخاصمة للثقافة والتراث ومستعصية على فعل
التاريخ.. تحيل إلى نموذج متخيل لا تاريخي في اللباس.. نموذج جرى تعميمه باعتباره
اللباس "الشرعي" الوحيد؛ فصار يباع في الجامعات والمدارس والمساجد
بأسعار رمزية لتيسير نشره، وكثيرا ما يتحول إلى هدية توسلية يتوجه بها إلى الفتاة
المستهدفة بالدعوة!.
طوال عقد السبعينيات جرى ما أسميه بـ "أيقنة" الحجاب كشكل محدد للباس
الشرعي للمرأة؛ أي تحويل الحجاب إلى أيقونة ترمز لمجموعة من القيم والأخلاق وتكاد
تجسدها حصريا فضلا عن اختصاره لكل قضايا المرأة المسلمة التي تبدأ ولا تنتهي إلا
به، لقد جرى الربط الشرطي والآلي بين ارتداء الحجاب وبين الأخلاق، بحيث صار الحجاب
علامة وحيدة وحصرية على الأخلاق التي يفترض أنها تغيب بغيابه وتحضر بحضوره.. فصكت
شعارات مثل: حجابك أخلاقك، حجابك عفتك، الحجاب فريضة كالصلاة، الحجاب قبل الحساب،
الحجاب عفة طهارة نقاء، الحجاب عنوان حيائك.. وكان الربط الآلي والشرطي بين شكل
معين للباس وبين معاني الحياء والعفة والطهارة والنقاء جزءًا من سمة الاختزال
والتسطيح التي غلبت على الخطاب الإسلامي الحركي ذي النفس الأيدلوجي الذي ساد حقبة
السبعينيات والثمانينيات.
لقد صار الحجاب اللباس الطبيعي والحصري الذي يميز الأنثى المسلمة، وتم تعبئته
بحمولة شرعية وأخلاقية كبيرة حرم معها أي لباس آخر غير الحجاب، حتى ولو توفرت فيه
الشروط التي استقر عليها النظر الفقهي التقليدي، كما نظر إلى الحجاب منفصلا عن
الحشمة التي هي تحييد الأنثى لجسدها وأنوثتها في التعاملات والعلاقات التي يفترض
أن تدور خارج ثنائية الذكر والأنثى مثل العمل والدراسة وخلافه.. ومن مفهوم أن يكون
الحجاب هو أكثر ما يتحقق فيه هذا الحياد، لكن الواقع يقول إن هذا الحياد كثيرا ما
تحقق في لباس آخر غير الحجاب كما نراه في لباس المرأة التقليدية أو المحافظة التي
مازالت تتمسك بالاحتشام في الملبس والبعد عن الإثارة دون ارتباط بنظر فقهي معين.
وعلى الرغم من أن هذا التحييد/ الاحتشام من المفترض أن تتوفر شروطه في المحجبات،
فإن الواقع أن جزءًا ليس هينا من المحجبات (كما سنرى) يتصرفن كإناث يرغبن في إبقاء
جمالهن ضمن المعادلة، بل أكثر من ذلك يرغبن في أن تتحكم الأنثوية في علاقات لا
ينبغي أن تحضر فيها الأنوثة.
أيقنة الحجاب
إن الذي جرى من جعل "الحجاب" أيقونة تجسد كل معاني الأخلاق والالتزام
الديني كان سببا في غياب الفهم الصحيح للحجاب ومسيرته التي سرعان ما أصيبت
بانتكاسة في السنوات الأخيرة سواء في معدلات انتشاره أو حتى في حمولته الدينية.
لقد حالت "أيقنة الحجاب" دون فهم حقيقة أن الحجاب لم يكن يصلح يوما
كمؤشر حقيقي ووحيد على قياس مدى تدين المجتمعات التي ينتشر فيها. فكثيرا ما كانت
له دلالات لا صلة مباشرة لها بالتدين بقدر ما لها صلة بتحولات اجتماعية وسياسية
جذرية تعيشها هذه المجتمعات دون أن يلغي ذلك حقيقة وجود دوافع دينية وراءه.
فكثيرا ما كان الحجاب عنوانا على نزعة استقلال للفتاة أو المرأة التي دخلت عالم
الحداثة لكن عبر بوابة التدين.. وهو ما جرى في مصر مثلا؛ حيث كثيرا ما كان الحجاب
في حقيقته دليلا على استقلالية المرأة ورغبتها في التحرر من التقاليد؛ ومنها
تقاليد اللباس سواء أكان سافرا خارج على الحشمة أو تقليديا محافظا.
إن كثيرا ممن ارتدين الحجاب لم يكن دافعهن رفض السفور والتبرج فقط وهو ما يمكن أن
يتحقق في اللباس التقليدي المحتشم مثلا، بل كان دافعهن الاستقلال والتحقق الذاتي أيضا..
فقد أضحت الفتاة المحجبة تتمتع في المجتمع بميزات لا تتمتع بها قرينتها المحافظة
المحتشمة، مثل الدخول في النشاط الديني أو الحركي بما فيه معارضة السلطة، بل كثيرا
ما نالت بسببه امتيازات لم تكن لقرينتها المحافظة التقليدية، مثل الخصوصية أو
السماح بالتأخر عن البيت لضرورة العمل الدعوي أو الحركي.. لقد حصلت كثيرات من
الفتيات عبر الحجاب على الثقة والاستقلالية والقدرة في مواجهة المجتمع بما أسس لهن
من حقوق لم تحصل عليها الفتاة المحافظة الأكثر انصياعا لقيم المجتمع وتقاليده.
وفي حالات أخرى كان الحجاب أقرب إلى تحصن بهوية مفترضة (أو اصطناع لها أحيانا)
احتجاجا على التهميش والظلم الاجتماعي الذي تتعرض المرأة، كما يمكن فهم لجوء كثير
من المسلمات في الغرب إلى الحجاب إعلانا لتحدي التهميش والظلم الذي تقوم به
المجتمعات الغربية للمسلمين؛ فتعاملهم كمواطنين من الدرجة الثانية وربما الأخيرة..
ومرات أخرى كان الحجاب إعلانا على الانضواء في مشروع أيدلوجي ديني جذري، مثلما
يمكننا فهمه في تظاهرات الحجاب أثناء الثورة الإيرانية.. وأخيرا فقد يكون دلالة
على الانصياع لضغوط الفضاء الاجتماعي الذي صار فيه الحجاب عنوانا على التدين كما
سنعرض لاحقا.
التدين والحجاب
إن أيقنة الحجاب كانت مسئولة أيضا وإلى حد كبير عن التحولات المأساوية التي أصابت
الحجاب.. فقد أدى الربط الشرطي والآلي بين التدين والحجاب إلى أن يصير الحجاب وحده
هو عنوان التزام الفتاة وتدينها. لقد صار الشكل (الحجاب) مقدما على المضمون (الستر
والاحتشام) في تقييم تدين الفتاة وأخلاقها.. حيث تم تكثيف كل معاني الأخلاق
والالتزام الديني (عفة، طهارة، نقاء) في الشكل/ الحجاب.. ثم جردت كل من تفتقد هذا
الشكل من كل هذه المعاني الإيمانية والخلقية.
انتشر الحجاب فيما مضي بوازع ديني (موجة تدين عام) قوّاه ما جرى من هذا الربط
الشرطي والآلي، لكنه صار فيما بعد ضاغطا متحكما بل ومتسلطا في الفضاء الاجتماعي،
بحيث أصبح عبئا شكليا لا حيلة أمامه إلا التحايل عليه والالتفاف أو التلاعب به،
فصرنا أمام حالة أقرب إلى حالات النفاق، لقد تحول "الحجاب" من قناعة
دينية إلى سلطة اجتماعية؛ فكان أن ابتلعه المجتمع وأعاد إنتاجه في صورة قد لا تكون
له أدنى صلة بأصله.
لقد أدت الرمزية التي اكتسبها شكل الحجاب إلى أن يصير متحكما في الفضاء الاجتماعي؛
فدخلت تحته مضطرة -لاكتساب شرعية الاعتراف بالتدين والأخلاق- قطاعات واسعة من
الفتيات والنساء التزمن بارتدائه شكليا دون أي التزام بمضمونه ومبتغاه.. وهو ما
انتهى تدريجيا إلى أن يتحول جهد هؤلاء الفتية والنسوة إلى التلاعب الحجاب
والاشتغال على تفريغه من مضمونه، فظهرت أنواع من الحجاب لا صلة بينها وبين الحجاب
"الشرعي"، بل ولا تتصل بأي سبب بمعاني الستر والاحتشام.
بعكس الحشمة التي تركز على مخاطبة الضمير وتسعى لضبط سلوك الأنثى ذاتيا؛ صار
الحجاب يركز على الانصياع الشكلي ويسعى إلى إرضاء الفضاء الاجتماعي الذي ترسخ فيه
الربط الميكانيكي بين الحجاب وكل معاني التدين والتخلق، فصار على الفتاة أو المرأة
أن تعتمد الصيغة الشكلانية المقبولة أو المفروضة اجتماعيا (في بعض الأحيان) دون
تعمق في روحها أو تحقق لمقصدها، بل وقد تبالغ أحيانا فترتدي أشكالا بالغة التشدد
من الحجاب (النقاب أو الحجاب المقارب للنقاب).. ثم تبدأ -بعد أن تكتسب شرعية
الحجاب المجتمعية الذي يعطيها أحقية التحلل من مفهوم الحشمة- في اللعب بالأنوثة
والجسد الذي ينطق بل ويصرخ من وراء الحجاب ورغما عنه، وساعتها يصبح على المجتمع أن
يخوض معركة يجرب فيها من دون جدوى كل الوسائل لضبط هذه الأنوثة التي قررت أن
تتحداه وتعلن عن نفسها من وراء الحجاب/ الشكل الذي ألزمها به!.
حجاب التباهي
ولأنه صار أيقونة كان لا بد أن يتحول إلى سلعة في سوق العرض والطلب الذي سيتضمن
ألوانا من الحجاب لا تتحقق فيها أي معاني الستر والاحتشام، ولا علاقة لها بالحجاب
الذي بدأ وظل شرعيا حينا من الدهر.. سيدخل الحجاب ضمن بيوت الأزياء التي تحوله إلى
"موضة" تتجدد بلا توقف، وتجعل منه موضوعا للإثارة والجاذبية والمتعة
التي لا تنضب، وسيعرف طريقه إلى الطبقات المترفة التي ستدخل به في صراع
الاستهلاكية فيصبح موضوعا للترف والتباهي بعدما كان -في معظمه- لباسا للفقراء
والزهاد والمقتصدين في السلوك والأخلاق.. سيعرف عالم الحجاب النقاب الخليجي الذي
يلهب -بالعيون المكتحلة والرموش المصطنعة- خيالات المراهقين فتسافر بعيدا في الحلم
بما تحت هذا النقاب، وسيدخله الإسبال الإيراني الذي يلفت الأنظار لصاحبته المتفردة
قصدا بهذا اللباس في بيئة لم تعرفه من قبل فتصبح موضوعا للعيون التي تنتهبها وتجذب
الأنظار أينما حلت وارتحلت على غير قصد الشرع في لباس المسلمة.. بل وسيعرف الحجاب
الذي ترتديه صاحبته مع الجينز المحكم على الجسد وربما الاستريتش الشفاف.. بل
وترتديه بعضهن مع لباس فاضح يظهر جزءًا من البطن يفصل ما بين نصفيها الأعلى
والأسفل.
ستكتمل الدائرة الاستهلاكية الجهنمية وتظهر "المانيكان" المحجبة التي
تحترف عروض أزياء المحجبات التي تدمنها نساء النخبة، وستظهر "الموديل"
المحجبة التي تملأ صورها الصحف والمجلات وإعلانات الحائط تروج لأزياء مختلفة
للمحجبات.. بل وستظهر "الموديل" المحجبة التي تغني وترقص بالحجاب في
كليبات الأغاني الشبابية.. لقد تكونت على "الحجاب" سوق وتجارة وعرض وطلب
بما جعله سلعة و أدخله في منطق السوق، وهو منطق لا بد أن يخرج به من عالم القيم
(الستر والقصد في اللباس) إلى عالم الأشياء؛ حيث كل شيء سلعة في سوق.
الستر والتبرج
أتصور أن الخطاب الإسلامي في مسألة لباس المرأة يجب أن يعود من جديد إلى عالم
القيم وينفصل تماما عن عالم الأشياء، فيبعد عن الشكل (الحجاب) ويركز في مقاربته
على المضمون (الستر والاحتشام). ولا يجب أن تكون المواجهة بين الحجاب وغيره من
اللباس، وإنما بين قيمة الستر والحشمة وبين التهتك والتبرج والإثارة والتلاعب
بالجسد، وهو ما لم يمنعه الحجاب الخالي من الاحتشام.
الحشمة والستر هي روح ما قرره العلماء في مواصفات لباس المرأة؛ من أنه ينبغي ألا
يصف ولا يشف ولا يكون زينة في ذاته.. وفي الأخيرة تشديد على أن جزءا من شرعية
اللباس ألا يكون لافتا للأنظار مثيرا للانتباه متآلفا مع المجتمع وهو ما يتحقق في
الاحتشام وقد لا يتحقق في أشكال الحجاب التي تمثل خروجا على المألوف والمستقر من
لباس المجتمع كما هو الحال في الإسدال الإيراني في بلد كمصر تنتشر فيه الطرحة
التقليدية، أو النقاب الخليجي في مجتمع كالمغرب تنتشر فيه أنواع من اللباس
التقليدي المحتشم كالجلابة.
الحشمة مفهوم أوسع من مجرد الشكل/ الحجاب، ومظلته أشمل من مجرد المتدينين/
الإسلاميين، بل ويمكن أن تتسع لغير المسلمين أيضا؛ فرفض التهتك والإثارة واللعب
بالجسد ليس خاصا بالمسلمين فقط، بل يمكن أن تلتقي عليه تيارات مختلفة من أديان
وثقافات شتي في العالم ما زالت تبحث عن الإنسانية وترفض تحويل الإنسان إلى جسد
يتحول إلى سلعة في ثقافة الاستهلاك والمتعة التي غزت العالم وكادت تخنق عالم
الإنسان فيه.
إن تحول الخطاب الإسلامي إلى مقاربة الاحتشام بدلا من الحجاب سيفتح بابا لتوسعة
مجال الخطاب الإسلامي ومداه بحيث يصبح أكثر انفتاحا على القيم الإنسانية محل
الاتفاق؛ فيحول اللباس الإسلامي من لباس ديني إلى لباس إنساني تلتقي عليه
الإنسانية في معركتها مع الابتذال والتهتك.