"الأمور
لا تتحسن مع الوقت بل نحن الذين نعتاد سوءها، لا تكرر ذلك الخطأ واتبع صواب قلبك
من البداية"
"عز الدين شكري فيشر.. رواية باب الخروج"
لم أكن أتخيل أن أبدأ طريقي في تلك
العاصمة وأنا وأنا أبادل أقرب إنسانة إلي قلبي الصراخ في إحدي شوارعها... تلك التي
لم أتخيل أن اختلف معها أو أُغضبها أو أغضب منها يوماً رحلت في ذلك اليوم وتركتني
وحيدة وسط تلك المدينة، وإحساس كامل بالضياع يجتاحني ويدمر كل شعور بالأمل أو
التفاؤل بداخلي...
لا ألوم عليها.. لاحقاً تصالحنا ولكن بقيت تلك الذكري عالقة في ذهني، ولم
أستطع إلي الآن أن أعيد ترميم الأمل بداخلي.. فبدت عيني زائغة في أغلب الأحيان
خاوية من التعبير، ودخلت في نوبات صمت طويل لا أخرج منها إلا للضرورة...
يا لله كم تحتاج الحياة في تلك المدينة إلي طاقة لا أجدها... إلي إبداع لا
أقدر عليه وسط زحام شوارعها والتلوث الذي يلمؤ هوائها... لا أستطيع إلا أن أسير
بشكل مسرع كباقي أهلها.. فقدت معانٍ كثيرة كنت أشعر بها وأحبها في مدينتي
الزرقاء..
يدعونها قاهرة.. وهي مدينة مهزومة... تستسلم للغرباء وتتجبر على أبنائها.. لا
نقاء النهار يهديها ولا سكون الليل يقدر على صخبها..
هي لا تلفظك ولا تحتضنك.. تترك فقط في صراع من ذاتك ومع كل الأشياء من حولك..
طرقاتها الطويلة المزدحمة .. وسماءها التي لا تصفو..وليلها الذي لا يهدأ...
يلقبونها بمدينة الألف مئذنة والأنسب
أن ينادوها بـ"مدينة الألف كوبري".. فوضاها المقيتة تمرض الروح وتعجز البدن..
يا لقسوتها... كيف يحتملها من كُتب عليهم أن يعيشوا فيها عمرهم كاملاً..
تلك المدينة المقيتة تطفيء البريق في الأعين.. تسحق الأحلام على أسفلت
طرقها التي لا تنتهي.. تدمر الطموح تدميراً.. طوبي لمن وجد ذاته بين زحامها.. طوبي
للغرباء فيها.. والكل فيها غريب.. لا يجمعهم شيء عليها سوي الطموح خاب تحقيقه في
أماكن مختلفة..
ربما أندم يوماً على قرار رحيلي من مديني الزرقاء.. وربما لا
ربما أصل إلي حلمي في تلك المدينة المقيتة... وربما أتوه في زحامها وأفني
تماماً قبل أن ألمح له بريق.
ولكن يبقي جزء بداخلي ساكن ومطمئن لإرادة الله أنه أختار لي هذا الطريق..
وسهل لي أمري إليه.. كان مجيئي إلي تلك المدينة لا يخطر لي على بال.. بل كنت أرفض
الفكرة تماماً... لكن أحياناً تتعارض أحلامنا مع بعضها البعض.. فتضطر أن تفاضل
بينهما.. وتتنازل عن حلم لتحقق آخر.. تتحمل آلام فقدان حلم.. حتى لا تطال يد الخيبة
جميع أحلامك... تتنازل عن بعض منها أو تؤجلها لتحقق بعضها الآخر.
وتبقي الحقيقة أنك تنازلت..
أتعلم.. بعد التنازل يصبح تحقيق ما تنازلت لأجله بالنسبة إليك أمر حياة أو
موت.. وأنا أفضل الموت عن فكرة العيش بإحساس الخسارة.. كفي خيبات... فلنتحمل
قليلاً... إن لم نتحمل تلك الصعوبات الآن متى سنتحملها.. إن لم ترهقنا مشقة السفر
الآن فمتى سنسافر.. إن لم تضيع شبابك وأنت تسعى وراء طموحك وأحلامك.. فمتى
ستحققها.. حين يشيب الشعر ويعجز البدن...!
ابتدأ الطريق.. ولا خيار للعودة.. إما تصل للنهاية أو تموت وأنت تحاول...
لا خيار لديك بأن تعود أدرجك وتنتظر الأقدار لتقذفك إلي مكان جديد تخشاه وتخاف
منه.. ستظل طوال عمرك هارباً وخائفاً ومتردداً إن تراجعت تلك المرة.